بقلم الزميل محمد علي صايغ، عضو المكتب التنفيذي في هيئة التنسيق الوطنية وعضو اللجنة الدستورية في هيئة التفاوض.
خاطرة
١٠ آيلول ٢٠٢٤
في لقطة مهمة من فيلم "ساكو وفانزيتي" الشهير الذي لاقى إقبالاً واسعاً من مثقفي بلدنا، في لقطة من لقطات الفيلم يصدرُ الحكم على ساكو اليساري الشيوعي وعلى فانزيتي الفوضوي بالإعدام. وقد تم التوكيل لليساري محامٍ من أقدر المحامين في زمانه. كانت نصيحة المحامي أن يتقدم اليساري وزميله بمذكرة تطلب العفو والرحمة من رئيس البلاد. قبل اليساري تقديم طلب العفو، في حين رفض الفوضوي تقديم هذا الطلب، مقتنعاً بأن لا جدوى منه. وقد أصبح طلب العفو الذي قدمه اليساري عن طريق محاميه حديث الناس وشكل رأياً عاماً طاغياً. فقد قام ملايين من المواطنين بالتوقيع على طلب منح العفو لـ"ساكو وفانزيتي" معاً.
عندما وصلت ملايين أوراق الاسترحام الممهورة من جموع المواطنين والتي تحملها "روليات" النقل إلى قرب مكتب الرئيس، لم يقبل الرئيس إلا أن يتقدم ساكو بنفسه لتقديم الطلب إلى الرئيس مباشرة.
وفعلاً، يتقدم ساكو من الرئيس حاملاً طلب العفو والرحمة من حكم الإعدام، وبعد أن أمسك الرئيس بالطلب، سأله قائلاً: "كيف يمكن أن تطلب العفو من سلطة تتهمها وتكيل لها شتى الاتهامات من أنها سلطة فردية وقحة، وناهبة للناس، ولا عدل فيها ولا قضاء، وتفرض سطوتها قهراً على الناس دون مراعاة لدستور أو قانون. كيف بعد كل الكلام الذي قلته عنا وجردتنا من أي دور أو عمل إيجابي، وتطلب منا بكل صفاقة وبدون خجل العفو والرحمة منا؟" وصاح به: "قل لي كيف.. كيف؟"
فأجابه ساكو: "أطلب ذلك لأنني أنا وأنت إنسان، والإنسان والإنسانية أكبر وأعظم من كل ما قيل وما سيقال. نعم، قلت كل ذلك، ولكنني أطلب العفو لأننا جميعاً من طينة الإنسان التي ننتمي إليها كلانا، وإنسانيتنا تجعلنا نطلب بقاؤنا لا فناؤنا."
بعد كل ذلك، وبالرغم من أطنان التواقيع على طلب العفو عن "ساكو"، وبالرغم من وجود رأي عام تعاطف مع قضية "ساكو وفانزيتي"، فإن الرئيس أصر على تنفيذ حكم الإعدام ولم يمنح العفو، ونُفذ حكم الإعدام بحقهما.
هذا الفيلم يحكي بوضوح انعدام معايير الإنسانية لدى الحكام الدكتاتوريين القابضين على الحكم، ويعطي صورة حقيقية عن أن المخالفين أو المعارضين للحكام أعداء يستحقون الموت. وأن شعارات حقوق الإنسان، والشعارات الديمقراطية والحقوق الدستورية والقانونية، مجرد شعارات وحقوق نظرية وعلى الورق، وأن المطالبة بها أو المطالبة بتطبيقها في ظل الاستبداد تقود إلى السجون أو قد تؤدي إلى الموت. فلا رأي ولا رأي آخر مسموح به يخالف السلطان، والكل يجب أن ينتظم ويتكيف ضمن بوتقة "القطيع".
ولكن الإنسان وقدرته على التغيير باقية ومستمرة ما دام موجوداً. وإن التغيير في التاريخ حتمي، وأن قدرات الإنسان وطموحه في ظل التطور والتغيير أكبر وأقوى من كل الذين يعملون على توقيف عجلة الزمن عندهم، وقسر الزمن في سلطتهم واستدامتها وتأكيدها. ولكن دون جدوى؛ فالتغيير قانون طبيعي في الحياة يفرض وجوده وآثاره على الجميع، أفراداً وحكومات ودولاً.