المسألة الدستورية السورية
مقال | بقلم الزميل د. منذر أبو مروان اسبر ، اكاديمي وباحث، عضو المكتب التنفيذي في هيئة التنسيق الوطنية.
مقال
١٩ آب ٢٠٢٤
في حين أن سورية تتوجه الى حكم دستوري ديمقراطي، نرى أن نبدأ بمبحث دستوري يتعلق بقضايا أساسية سنتعرض لها واحدة بعد الأخرى، قبل أن نتناول المبادئ الدستورية لاقتراح دستور جديد للبلاد.
أولاً: من السلطة الى الدولة
تطرح قضية الدستور دفعة واحدة مسالة الدولة والانتقال من السلطة إلى السيادة.
إن العلم السياسي يرى أن السلطة هي قوة تولد حسب الوضعية التاريخية لجماعة بشرية وتقوم وظيفتها في قيادة هذه الجماعة لخدمة مشروع ما أو عملها من أجل المشترك العام لاعضائها والقدرة على فرض ذلك .
ومنذ الوقت التي دخلت فيه المجتمعات الإنسانية حالة من التطور والعمران، فإن وجود السلطة أصبح يحتاج إلى مسّوغ اجتماعي يقوم إما على الأصل الديني للسلطة، ومذ ذاك فإنها سلطة من خارج البشر على البشر، وإما أن تقوم السلطة على عقد اجتماعي يرسم فيه البشر الحق الذي يرونه ويتوافق مع حاجاتهم وتطلعاتهم.
وفي الواقع لا يمكن تصور العصر الحديث حالياً بدون وجود أربعة أمور أساسية وهي الدولة والديمقراطية والاقتصاد والإعلام. وفي هذا فان السلطة قد تحررت من أشكال تجسداتها السابقة شيخ قبيلة أو زعيم حاضرة ... لكي ترتبط بفاعل جديد وهو الدولة كتعبير سياسي حقوقي سيادي للأمة بحيث أن وجودها يتبنين على مرتكزات كيان اجتماعي تاريخي مستقر نسبيا رغم وجود التناقضات المختلفة داخله ،و تعمل العوامل الموضوعية من أرض ولغة ونمط معاش واقتصاد على التحامه، كماأن العوامل المعنوية مأثوراً روحياً و تراثاً تاريخياً و ثقافة مكتسبة تقوم بتوحيد إرادة العيش والعمل المشترك فيه ولصيانته.
وبهذا فان السيادة هي الصفة الأساسية للدولة كسلطة "حق أعلى " أي كسمة حقوقية لها وعدم المساس بها بما يفسر قيام النظام الدولي الحالي على عدم التدخل في شؤون الدول كونها كيانات حقوقية ـ سياسية ـ سيادية تحديداً.
ان مايميّز الدولة هي قدرتها على إصدار قواعد تتعلق بتنظيمها وبشؤون المواطنين و تتمتع بأدوات إكراه لاحترام القوانين ،سواء أكانت جهازاً قضائياً او قوة عسكرية أو بوليسية. ويكمن الفرق بين الدول بمدى استخدامها أوعدم استخدامها لادوات الإكراه أو العنف .والدولة ككيان مستقل عن غيرهمن الدول له الحق والوظيفة في حماية حدود البلاد ومصالحها ومرافقهاالحيوية بغض النظر عن النظام السياسي القائم فيها بما يقيم تمايزاً بينالدول التي تقوم بهذه الوظيفة او بقصورها الذاتي أو فشلها أو تابعيتها الخارجية.
ثانياً: عناصر السيادة
تتم السيادة داخل الدولة نفسها منذ أن تتوقف عن إناطتها بعاهل الحق الإلهي لتربط مباشرة بالأمة أو بالشعب وليبرز نمطان من السيادة :
١ـ السيادة القومية (بالتمييز بين القومي والوطني في أوضاعنا) التي تقوم على أن مبدأ السيادة يكمن جوهرياً وأساساً في الأمة ، وأنه لا يحق لأيفرد كان ان يمارس اية سلطة كانت لا تنجم عن هذا المبدأ. وفي هذا لابد منالقول أن الأمة هي ذات جامعة معنوية لا تقبل التقسيم ولا تحال الىمكونات عرقية او طائفية أو جهوية فيها، وتتحقق ممارسة السلطة عن طريق ممثلين منتخبين من قبل الهيئة الاقتراعية في دوائرها المختلفة للتعبير عن الارادة العامة للشعب.
٢ـ السيادة الشعبية. تقول هذه السيادة أن كل مواطن يمتلك جزءا منالسيادة ويشارك في تشكيل الإرادة الجماعية . وبهذا فان الشعب (مجموع المواطنين) يحلّ محل المة وتصبح السيادة الشعبية متعارضة مع السيادة القومية رافضة بذلك الديمقراطية التمثيلية، كون السيادة للشعب ولايمكن تفويضها الى ممثلين عنه. إنها تطالب بالديمقراطية المباشرة التي يجب أن يقوم عليها الحكم وحيث ان الشعب نفسه يصوت على القوانين.
والواقع أن الديمقراطية قد تطورت بحيث انها تجمع بين السيادة الوطنية والشعبية حيث يطرح على الشعب مباشرة الاستفتاء على مسائل أساسية للبت بها.
ثالثاً: السلطات داخل سلطة الدولة
بما ان السيادة هي الجوهر الحقوقي المتعلق بالسلطة العامة ،فإنها مطلقة ويجب أن تتعلق كليا بأمة او شعب ، ولان مفهوم السلطة بحد ذاته يعكس واقعاً متفاوتاً ، فإن من شأنها أن تتجسد في قوى متعددة في الحياة الاجتماعية. بهذا تظهر داخل الدولة( قوى الأمر الواقع) التي يمكن للدولة أنتعترف بها أو أن تغض الطرف عنها .
ذلك أن أية فكرة سياسية أو اجتماعية أو اعتقادية ...إنما تستخدم للتعبيرعن جماعة تحملها، وبوجود هذه الجماعة تتولد قوة أمر واقع لها . مثلاً لكنيسة أو المؤسسة الدينية أو الحزب السياسي أو مختلف النقابات العمالية والفلاحية والمهنية وأرباب العمل أو المنظمات الشعبية أو الحقوقية .....
فإذا كانت الأحزاب السياسية بتعبيراتها الاجتماعية المختلفة أدوات من اجل السلطة والدفاع عن برنامج حكومي لها، فإن النقابات العمالية والفلاحية و أرباب العمل هي المثال لاتحاد مصالح مهنية مادية في حين أن الكنائس والمشيخات لاتعني بما هو مهني مادي وإنما بما هو طقوس وشعائر روحيةواعتقادات ، وفي حين أن الروابط او الجمعيات تدافع عن حريات المواطنين وحقوقهم الاجتماعية والمدنية والثقافية والاقتصادية والبيئية..ولهذا يقاس تطور الشعوب بوجود مانسميه بالخط العريض «بالمجتمع المدني» باعتباره حامل حركة التقدم العمراني ـ الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي ،وأن هذا المجتمع وإن تبلور وتطور مع الحضارة الحديثة التي اعترفت باستقلاليته الذاتية وقامت بتأطيره القانوني ، فلقد وجدت له اشكال في الحضارات السابقة.
رابعاً الدستور:
إن الحديث عن الدولة مرتبط مباشرة بالدستور في المجتمع العصري ، ذلكلأن السلطات العامة بحاجة الى قوعدتها وتنظيميها وتحديد صلاحياتها . ويمكن القول أن مسألة الدستور ليست جديدة وإنها وجدت صيغاً لها كما بالنسبة" لصحيفة المدينة " ( قاموس الفكر السياسي ـ باريس ـ 1977) والذي يعتبر أول دستور مدني في التاريخ العربي ـ الإسلامي .
إن أهمية وأولوية الدستور في العصر الحديث تنجم عن أنه يشكل صكاً لحق الأعلى، ولذا لا مندوحة عن التمييز بين نظام قائم على السيادة المونارشية للحق الالهي والتي يرتبط فيها "الدستور" إن وجد ،بإرادة العاهل، بوجه أساسي، وبين النظام القائم على سيادة الشعب حيث أن الدستوري وضع عموماً من قبل جمعية تأسيسية ويصوت عليه المواطنون مباشرةً.
وهذه السيادة المتميزة للدستور ليست حقوقية وحسب وإنما هي معنوية أيضا تتجسد في احترام الحاكمين والمواطنين لها معاً بحيث أن المجتمع الدستوري يجد تعريفه مترابطاً مع التعريف المزدوج للدستور نفسه في كونه النظام الأساسي الذي يتحكم بالدولة واشتغالها:
1 ـ المادي، نقصد بذلك هيكلة مؤسساتها السياسية والحريات الأساسيةفيها وضمانة هذه الحريات.
2ـ والإجرائي، نقصد الصيغة التي تأخذها الأحكام التشريعية حتى لاتخرج عن أحكام الدستور.
إن عدم احترام الدستور الذي يجسد الإرادة العامة بعدم تطبيق أحكامه فيـ الفصل بين صلاحيات السلطات الثلاث - وتطبيق القانون على الجميع والتقيد بالحريات الأساسية للمواطنين ـ ينتج الديكتاتورية السافرة أو المقنّعة والنزاعات الاجتماعية والسياسية المفتوحة.
ولهذا فإن دستورية الحكم الفعلية تشكل بحدذاتها وقاية وصيانة للرابطة الوطنية والمواطنية والسلام الأهلي والدفاع عنالحريات الدينية والمدنية والثقافية والإعلامية والعلمية للبلاد التي تشكل نوعاً من سلطات موازية داخل سلطة الدولة.
وبالرغم من وجود دساتير غير مكتوبة، أو أن تعتمد بقسم منها على أعرافمتفق عليها فإن المجتمعات الجديدة تتجه نحو تحرير الدساتير بما يوجد نمطين لها:
ـ الدساتير المرنة التي يمكن التغيير فيها بقوانين عادية وبالتالي بإمكانيةمرنة في تعديلها
ـ والدساتير الصلبة التي لا يمكن التغيير فيها إلا بقواعد إجرائية صارمة.
خامساً: مبدأ الدستوريـة
يكمن هذا المبدأ في أن كل قاعدة حقوقية يجب أن تحترم أحكام الدستور ، وهذا يعني أيضا وضع آليات فعالة من الرقابة لتطابق القوانين التي تسنها السلطة التشريعية مع أحكام الدستور.
الرقابة الدستورية هي إذن صلب الحياة الدستورية وهي تستجيب إلى مبدئين هما خضوع مختلف الحكومات للدستور من جهة ، ومن جهة أخرىالحد من سلطات الحكام وهذا ما يتطلب الشروط التالية:
ـ التمييز الواضح بين السلطة التأسيسية للدستور وبين السلطة التشريعية من جانب ، ومن جانب آخر تعريف الحريات العامة.
فالاعتراف بالحريات العامة الفردية والجماعية للمواطنين أمر أساسي لكيتكون ممارسات الحكام مقيدة بهذه الحريات إذ بعدم نص الدستور عليها يتحول المواطنون الى رعيّة خاضعين، لاعلاقة لهم بالعصر الحديثويعيشون في غربة عنه .
ـ الرقابة من قبل هيئة سياسية تسمى لدى بعض الدول " بالمجلس الدستوري "المكلّف بحق الاعتراض على أي قانون لا يتوافق مع الدستور. وهذا الحل يقدم ميّزة أساسية في إمكانية معارضة البرلمان كسلطة سياسية بسلطة من طبيعة سياسية ، ويمكن القول إن هذا أقل إشكالية منان تتم معارضته بقرار قضائي.
ـ الرقابة القضائية من قبل محكمة قضائية صرفة ، تمارس الرقابة الدستورية لأنها ـ حسب البعض ـ أكثر تأهيلا في إعطاء أحكامها في الحق الخالصدون أن تضع بعين الاعتبار ما هو سياسي. إلا أن هناك اعتراضات علىإعطاء محكمة قضائية الحق في شل الارادة البرلمانية للشعب وبالتالياختراق مبدأ الفصل بين السلطات .
وبالمقارنة بين المجلس الدستوري وبين المحكمة الدستورية فإننا نفضل المجلس الدستوري في الوضعية السورية والعربية بوجه عام.
سادساً: الشعب والدستور
لقد بيّنا أن مصدر الدستور هو الشعب وأن تفوقه الحقوقي مرتبط من جانباَخر بالقوة المعنوية التي يتمتع بها لدى المواطنين تمسكاً ومطالبة به ، وباحترام الحكومات للضمانات الدستورية وممارسة الرقابة على تطابق القوانين الصادرة عن البرلمان مع الأحكام الدستورية.
إلا أن الدستور ليس له من سمة قطعية بقدر ما إنه مرتبط بالإرادة الشعبية بما يجعله نصاً متغيراً حسب هذه الإرادة وبتعبير آخر فلا يمكن فصله عن الدينامية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لأي مجتمع كان . من هنا نجد إعادة صياغة الدستور أو التعديلات المستمرة عليه حسب هذه الدينامية وتطوراتها في هذا البلد أو ذاك.
هناك إذن مبدأ المبادئ إن صح التعبير وهو ضرورة تأقلم الدستور او تغييره حسب الإرادة الشعبية وبما يمكن من تغيير النظام السياسي. يكفي ان نشير الى فوات التصنيفات الكلاسيكية في النظم السياسية على أعقاب التغييرات التي حدثت للدساتير . فاذا كانت النظم المونارشية تضع على رأسها ملكاً أو أميراً توارثياً يكمن الشعب أو الأمة في شخصه، فإننا نجدأن بعض المونارشيات قد أصبحت ديمقراطية.
وإذا كانت دساتير بعض الجمهوريات التي تعني وجود مبدأ سيادة الشعب سواء في واقع حكم أوتوقراطي فردي وتحوله الى ديكتاتورية مستمرة دون قاعدة شعبية لها، بما يجعلها تختلف عن حكم الزعيم الكارزمي الفردي الذي يقول بمبدأ سيادة الشعب ولكنه يستمد سلطته من ثقة الشعب به ،فإن هذه الدساتير متعارضة مع الحكم التمثيلي الحر للشعب ومع الحريات الديمقراطية أو الرقابة الديمقراطية الدستورية.
في كافة الأحوال فإن الديمقراطية التي تعني المجتمع المتجدد والصانع لمصيره، هي التي تمكن من إنتاج دستور ديمقراطي بوجود حرية التصويت للشعب نفسه ومن خلال مجتمع مدني ناهض أشرنا إليه وبالمنافسة السلمية بين أحزابه، وضمانة حقوق المواطنين والعاملين فيه والقدرة على ممارسة الرأي الحر. هذا يعني ان السيادة الشعبية واحترام الدستور وتعديله أو تغييره مرتبط بممارسة الديمقراطية بمختلف نظمها النيابية أو الرئاسية أو المختلطة .
خاتمة
إن الأولوية المعطاة للدستور اليوم تندرج كأولوية حقوقية ـ سياسية دفعةواحدة أي بارتباطها بحكم سياسي انتقالي. ولكن إذا كان أي دستور يشكل القانون الأعلى فإن الإرادة الشعبية العامة هي حقيقته التأسيسية . ومنهنا فان الحكم الانتقالي لا يمكنه أن يعبر عن هذه الارادة الشعبية بقدر مايعبر عن ظرف استثنائي وضرورة موضوعية مرساة على مبادئ دستورية. ولهذا فإن وضع دستور جديد سيدفع إلى عرضه على الاستفتاء الشعبي بما سيقلّص بالضرورة الفترة الانتقالية ، وبالضبط طبقا لمبدأ سيادة الشعب وكجزء لا يتجزأ من حقه في تقرير مصيره الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة بند 2".
ما هي هذه المبادئ الدستورية وبالأحرى ما الذي تقوم عليه العديد من الدساتير المعاصرة وما يصلح لأوضاعنا؟
هذا ما سنعرضه لاحقا بعد أن طرحنا المسألة الدستورية بخطوطها الأساسية الضرورية لطرح المبادئ الدستورية نفسها ولدستور نيابي ـ رئاسي جديد .