اللامركزية الإدارية
خيار الضرورة لوحدة سورية
مقال | بقلم الزميل محمد علي صايغ، عضو المكتب التنفيذي في هيئة التنسيق الوطنية وعضو اللجنة الدستورية في هيئة التفاوض.
مقال
٢٤ آب ٢٠٢٤
تختلف الأنظمة السياسية تبعاً لتطور وعي المجتمعات في الدول وقدرتها على إنجاز عقد اجتماعي وسياسي، ينبثق عنه دستور وقوانين ناظمة لإرساء قواعد للحكم السياسي في بلدانها. في حين أن غياب العقد الاجتماعي/السياسي في بلدان أخرى يؤدي إلى أن يتمظهر الحكم بفرض الحاكم عقداً سلطانياً وتسلطياً، يعكسه دستور وقوانين ترسخ استدامة حكمه وتمنحه صلاحيات شبه إلهية عبر مؤسسات وهيئات شكلية تدور في فلك الحاكم وتسبح بحمده.
كما يختلف وجود وفاعلية اللامركزية الإدارية أو الإدارة المحلية تبعاً لطبيعة وبنية المجتمع وتطوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. إذ تعتبر فاعلية الإدارة المحلية جزءاً من فاعلية وتركيبة أنظمة الحكم القائمة، ويتسع دورها وأداؤها أو يضيق تبعاً للنظام الذي تستظل به، إن كان ديمقراطياً أو ديكتاتورياً.
وإذا كانت اللامركزية الإدارية نوعاً من التنظيم الإداري للدولة يقوم على نقل بعض الصلاحيات الإدارية من الدولة المركزية إلى وحدات محلية منتخبة مباشرة من الشعب، فإنها مرتبطة أيضاً بمواضيع متعلقة بالنظام أو التنظيم الإداري ولا علاقة لها بالنظام السياسي للدولة (الفيدرالية نظام سياسي). ويقوم أساس اللامركزية الإدارية على توزيع الوظيفة الإدارية بين السلطة المركزية وبين هيئات إدارية مستقلة، مما يؤدي إلى منحها الشخصية الاعتبارية وخضوعها لرقابة السلطة المركزية. لذلك لا يمكن أن تكون هناك لامركزية إدارية محلية بدون مركزية إدارية عامة. فاللامركزية هي تنظيم إداري يعد من أهم مبادئ حكم الأكثرية التي تقوم عليها الديمقراطية، وهي عامل مكمل لتلافي عيوب المركزية وليست عامل إلغاء للسلطة المركزية.
تقوم اللامركزية الإدارية على اعتراف السلطة المركزية بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح العامة للدولة، مما يستدعي إكساب السلطات المحلية شخصية معنوية خاصة، وتمتعها بالاستقلال المالي والإداري، وقيام السلطة المحلية اللامركزية على أساس الانتخاب الشعبي.
اللامركزية الإدارية لا تنحصر بالمحليات أو الأقاليم وإدارتها فقط، وإنما تشمل تطبيقها كافة البلديات والمؤسسات والهيئات والمرافق والوزارات. على أن تطبيق اللامركزية مرتبط بقوة الدولة المركزية القادرة على القيام بوظائفها في حفظ الأمن وتطبيق القانون والمساواة بين المواطنين على كامل أراضيها، وقدرتها على اعتماد خطة إنمائية موحدة للبلاد تحقق الإنماء المتوازن. إذ لا يمكن تصور تطبيق اللامركزية الإدارية فعلياً في ظل ضعف سلطة الدولة المركزية المعطلة، وغير القادرة على القيام بوظائفها. وهذا يقتضي عند تطبيق اللامركزية إطلاق الإصلاح الإداري العام بما يترافق مع إصدار التشريعات المتوافقة مع هذا الإصلاح، إضافة إلى تحديث الإدارة المركزية وأجهزة الرقابة وطريقة تفكيرها وأدائها، وتفعيلها على مستوى الوحدات الإقليمية.
تختلف اللامركزية الإدارية عن اللامركزية السياسية في أن الأخيرة مرتبطة بشكل الدولة السياسي وطبيعة النظام السياسي فيها، وتندرج تحت موضوعات القانون الدستوري والنظم السياسية، وليس القانون الإداري. إذ أن تغيير شكل الدولة السياسي يتم بتغيير دستوري وليس قانوني، بمعنى أن تتوزع فيها الوظيفة السياسية (السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية) وليس الإدارية فقط بين المركز والولايات. ولذلك فإن اللامركزية السياسية لا تجد تطبيقاً لها إلا في الدول الفيدرالية أو الكونفيدرالية.
بما أن اللامركزية الإدارية تتطابق مع الإدارة المحلية، وحيث أن التجربة المرّة والمشوهة في تطبيق نظام الإدارة المحلية في سوريا قد أعطت الانطباع المعاكس لمفهوم الإدارة المحلية، فقد اتجه البعض تحت ضغط الظروف السياسية والخشية من الدفع باتجاه التقسيم أو التمهيد له عبر المطالبة بالنظام الفيدرالي أو بأشكال من الإدارة السياسية "كمسمى الحكم الذاتي"، إلى تبني ما سمي مؤخراً بالإدارة اللامركزية الموسعة.
لكن اللامركزية الإدارية الموسعة مفهوم ملتبس وغامض ولا يستند إلى أي مفهوم إداري أو قانوني علمي، وإنما قد يشكل تعبيراً ناتجاً عن حالة سياسية راهنة. كما أن الحدود والمساحة الفاصلة بين اللامركزية الموسعة وبين اللامركزية الإدارية غير واضحة ومحددة، ويمكن أن يشكل التوسع غير المنضبط فيها جنوحاً نحو اللامركزية السياسية التي هي فعلياً الفيدرالية في شكلها الإداري/السياسي.
يمكن تصور اللامركزية الإدارية الموسعة في توسيع صلاحيات الإدارة اللامركزية بشكل أكبر وأوسع مع تحديد ضوابط تحد من السلطة المركزية في تجاوز هذه الصلاحيات. ويمكن أن تشمل صلاحيات السلطة اللامركزية المحلية الموسعة في حدها الأقصى بما يأتي:
تخفيض تبعية السلطات المحلية للسلطات المركزية الحكومية، وبالتالي تحديد أوجه الرقابة وحصرها بقانون يتم إقراره بالمجلس النيابي، ويحدد القانون صلاحيات الإدارة اللامركزية بدقة ويتم التعامل مع المراسيم والقرارات المركزية وفقاً للقانون، بما لا يتناقض مع صلاحيات الإدارة اللامركزية المحلية. وهذا يستدعي أيضاً إصلاح الجهاز الرقابي وسحب الصلاحيات الرقابية من السلطات المركزية (وزراء، محافظين ..) إلى أجهزة رقابية متخصصة ومستقلة، أو إنشاء جهاز رقابي عام يختص بالنظر في قانونية القرارات المتخذة من السلطات المركزية أو السلطات اللامركزية.
ربط أجهزة الرقابة بالسلطة التشريعية (مجلس النواب)، خاصة في النظر في القوانين المحلية ودستوريتها، وإحالة القوانين التي يحتمل مخالفتها للدستور إلى المحكمة الدستورية العليا. ذلك لأن البرلمان من الممكن أن يتولى مراقبة عمل المؤسسات الرسمية العامة ومن ضمنها السلطات المحلية. وبالتالي فإن المراسيم ذات التداعيات السياسية كقرارات الاستملاك أو نزع الملكية مثلاً، يجب أن تنال موافقة أغلبية أعضاء المجلس النيابي لسريانها وتطبيقها.
اللامركزية المالية: وتتمثل في الإقرار بحق السلطات المحلية اللامركزية في تأمين موارد ذاتية من مصادر يحددها القانون وفق نسبة محددة، يعود جزء منها للإدارة المركزية (ضرائب، رسوم ...) تستوفى مباشرة من المكلفين وتصرف على الخدمات المحلية دون أن تقوم السلطات المركزية باستيفائها لحساب جميع السلطات المحلية ثم توزيعها بشكل منفرد وأحياناً بشكل اعتباطي أو انتقائي على كل منها وفقاً لمعايير تحددها السلطات المركزية في غياب السلطات اللامركزية المحلية. وبالتالي فإن اللامركزية الموسعة تستدعي تحصين استقلالية السلطات اللامركزية المالي وتعزيز هذه الاستقلالية لإدارة شؤونها بقدراتها الذاتية دون الاعتماد على تحويلات السلطة المركزية.
منح السلطات المحلية الحق في تحديد الملاكات الوظيفية، والتسلسل الوظيفي لموظفيها، ورواتبهم، وشروط توظيفهم، وتعويضاتهم، والتعاقد معهم بما لا يتناقض مع الرؤية العامة للسياسة الوظيفية والقانون العام الصادر عن السلطة التشريعية، وبما يلبي احتياجات السلطة اللامركزية. وقد يكون إنشاء معهد وطني لتدريب العاملين والموظفين العامين ومديريهم المحليين على فهم القوانين وأصول تنفيذها خطوة مهمة في الارتقاء المتوازن للكوادر العاملة في جميع المناطق الخاضعة للإدارات اللامركزية.
فصل السلطات المحلية عن الأجهزة الأمنية وتدخلها في شؤونها، وتحريرها من الهيمنة على أشخاصها وقراراتها، وضبط عمل تلك الأجهزة الأمنية والشرطية بتطبيق القانون الخاص بها. وهذا يقتضي وجود جهاز شرطة على المستوى المحلي يرتبط برئيس المجلس المحلي المنتخب مع مجلسه، يتولى حفظ الأمن ويتولى التنسيق مع جهاز الشرطة المركزي وطلب المؤازرة حين الحاجة. ويقوم جهاز الشرطة المحلي وفقاً للصلاحيات المحددة بالقانون بكامل مهام الشرطة الاعتيادية في حفظ النظام والأمن.
غير أن بعض المكونات السورية، في سعيهم للتخفيف من حدة مطالبتهم بالفيدرالية والمناورة السياسية عليها، أعلنوا قبولهم بنظام اللامركزية الديمقراطية، وهو أيضاً مفهوم ملتبس وغامض جداً ومفتوح على العديد من التأويلات والرهانات. ذلك لأن الديمقراطية مفهوم يتحدد عند التطبيق بنوعية نظام الحكم، إضافة إلى أن أنظمة الحكم الديمقراطية متعددة سواء في الدولة الموحدة أو الاتحادية.
والمشكلة في اللامركزية الديمقراطية تكمن في اختلاف النظرة والموقف وزاوية النظر من شخص لآخر، وحسب ما يريد ويرغب كل شخص منها. كما تختلف الرؤية لمساحة تطبيقها حسب المصلحة ومصادر القوة التي يمتلكها، فيتوسع في المساحة التي قد تصل إلى التقاطع مع الفيدرالية وفرضها.
لذلك لا بد من معيار يحدد ويضبط أي صيغة للإدارة اللامركزية بحيث لا تنقلب إلى الفيدرالية تحت يافطة اللامركزية الديمقراطية أو غيرها، ولا تتقزم إلى حد التماهي مع اللامركزية الإدارية الشكلية.