تقسيم الأمر الواقع
مقال
٢٩ آب ٢٠٢٤
يستمر النظام السوري في السعي لتأكيد أن شيئًا لم يتغير في سوريا منذ تشرين الثاني عام 1970، من خلال سلوك انتقائي ينفي الوقائع الجديدة المتراكمة في الحياة السياسية السورية. يعتمد هذا الأسلوب على ما يحتاجه النظام لاستمرار الهيمنة والسيطرة على حكم سوريا، سواء كان عدد السكان 23 مليونًا أو 7 ملايين سوري، خاصة بعد انتخابات مجلس الشعب الأخيرة في صيف عام 2024.
فالاستمرارية في الحكم بعيدة عن كل الديماغوجيات الشكلية؛ إذ تعد القوة العارية الأساس في ممارسة الحكم، سواء لمن يرضى ويرغب به، أو لغير الراغبين من السوريين. تأتي كل التغيرات لاحقًا في استمرار الحكم بما يخدم وجوده، بحيث لا توجد قوة سياسية أو هيئة أو حزب أو تكتل قادر على الوصول إلى السلطة في سوريا، سواء بوجوده أو في انتخابات شرعية.
لذلك، سعى النظام إلى طلب التدخل من الدول الداعمة له مثل إيران، روسيا، وميليشيا حزب الله وغيرها من الميليشيات المأجورة لإيران. لكن كل هذه القوة العارية غير قادرة على منحه الشرعية والدستورية التي يحلم بها منذ الحركة التصحيحية عام 1970، فكل الدساتير التي عاش بها كانت محطات في مسيرة حكم انقلابي عسكري، اعتمد على انقلاب الثامن من آذار عام 1963، واستمر حتى هذه اللحظة، رغم كل محاولات إضفاء الشرعية على حكم العسكر في سوريا.
وتأتي عدم شرعية كل ما يقوم به من لحظات نزع الشرعية التي قام بها الشعب السوري بعد آذار 2011، وما طلبه من مساعدة الدول التي تدخلت إلا للحفاظ على كرسيه. في الوقت ذاته، هناك العديد من الدول التي نزعت شرعية استمراره في الحكم، لكنها لم تفرض تغييرًا ما، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الغربي. لكنها رفضت نزع هذه الشرعية بالقوة كما كان في ليبيا والعراق، وتركت الأمر مفتوحًا أمام السوريين الذين طلبوا المساعدة، فأرسلوا كل ضباع العالم إلى الأرض السورية لتصفيتهم عليها تنظيمات وأفرادًا، بحيث تصبح سوريا وأرضها وشعبها جزءًا من فعل الإرهاب العالمي المطلوب تصفيته دوليًا على الأرض السورية، وجعل سوريا عبرة لكل من يطالب بالثورة والحق من شعوب المنطقة والعالم.
وبعد النجاح في تصفية الكم الأكبر من الإرهاب والتنظيمات الإرهابية على الأرض السورية، وأخذ الطالح بالصالح في الوضعية السورية، جاء زمن محاولات الدسترة والشرعنة من قبل الدول المتدخلة في سوريا. فالنظام والدول الداعمة له يعتقدون أن الاستحقاقات الدستورية التي وضع روزنامتها النظام والأفعال الشكلية للدسترة هي جزء من إعادة الشرعية المفقودة بعيدًا عن الاستحقاقات الأممية والدولية المطلوبة لفتح الملف والقضية السورية أمام طريق وفعل واضح يبدأ من بيان جنيف 2012، إلى القرار الأممي 2254، ويفتح عملية الدسترة والشرعنة على كافة المستويات ويعيد المهجرين واللاجئين عن طريق قرارات فردية وطوعية وآمنة، وعودة الأرض المسيطر عليها من قبل الدول وأدواتها وتنظيماتها المحتلة إلى مسار تسوية سياسية (سورية- سورية) بإشراف أممي وبرعاية دولية تحافظ على وحدة سوريا أرضًا وشعبًا.
ويكون لكافة السوريين رأي سياسي مشارك وحضور واضح في العملية التفاوضية والسياسية التي تشرف عليها الجهات الأممية. ما يقوم به النظام من محاولات دسترة وشرعنة وجوده فقط من خلال انتخابات مجلس الشعب، قد يدفع القوى والتنظيمات والأطراف المدعومة إقليميًا نحو حالة استعصاء بدأها هو على مستوى الفعل الدستوري والعمل التفاوضي نحو إعلان دسترة وشرعنة وهيمنة في المناطق الخارجة عن سيطرته وحلفائه، مما ينتهي بفعل دسترة وشرعنة وهيمنة أمر واقع يعيد إنتاج تقسيم البلاد وفق ذات المنطق المعتمد على الأمر الواقع السوري المقسم إلى مناطق ذات نفوذ تركبت في بعد رباعي الأبعاد (النظام وداعميه)، و(إدلب والاحتلال التركي)، و(الاحتلال الأمريكي الذي يسعى لتعزيز حضور الإدارة الذاتية)، إلى جانب هيمنة مجال (عسكري- جوي) مفتوح في الجولان المحتل لكيان الاغتصاب الصهيوني، ويمتد نحو محاصرة الوجود الإيراني على الأرض السورية.
إن الاستعصاء الذي فرضه النظام في اللجنة الدستورية والعملية التفاوضية منذ فترة طويلة قد يدفع الطرف الائتلافي بالتنسيق مع المحتل التركي نحو تنظيم انتخابات خاصة به، تبدأ بفرض أمر واقع جديد يسعى إلى دسترة وشرعنة الوجود السياسي الائتلافي كأمر واقع بخاصية تقسيمية، ورائها ضيق أفق سياسي، وقوى أمر واقع من هيئة تحرير الشام، والنصرة، والقوى المتشددة الأصولية.
تبقى قضية الحوار والنقاش والجدل السوري- السوري على الطاولة مفتاحًا أساسيًا لحل كل القضايا الخلافية، سواء كان برعاية أممية كما في مسار جنيف التفاوضي والدستوري، أو كما تطالب به أطراف سورية- سورية في الإدارة الذاتية مع كافة الأطراف السورية.
إن العملية السياسية التفاوضية والدستورية تحتاج إلى فعل ضغط دبلوماسي دولي قادر على إعادة الدستورية إلى اجتماعاتها لتكون قادرة على إنجاز نصف بنود الدستور السوري، لكي تستعيد اللجنة الدستورية المصغرة الثقة بذاتها وقدرتها على التقدم نحو إنجاز دستوري واضح يضع الدستور الجديد على سكة الإنجاز التفاوضي السياسي.
وتفتح سلال جديدة، منها سلة البيئة الآمنة، لكي لا تقوم الأطراف المشاركة في الدستورية والتفاوضية بالدفع نحو دسترة وشرعنة خاصة ترسم التقسيم الواقعي الحاصل، وتجعل من وحدة سوريا أرضًا وشعبًا حلمًا بعيد المنال. فكلما طالت وتباعدت الإنجازات في العملية الدستورية والتفاوضية، يكون الفعل الترسيمي للواقع المقسم هو الأقرب إلى الحياة الواقعية، وليس الأماني والآمال التي تعلق مساراتها على الرغبات والأحلام الوطنية البعيدة عن الواقعية السياسية القائمة على تراكم الأفعال بحيث تجعل من استمرار وحدة سوريا جزءًا من الفعل السياسي الواقعي، وليس جزءًا من التنظير الذي لا يرتكز إلى قراءة واقعية جديدة.
وأمام هذه الوقائع العنيدة في الحياة السياسية السورية، المطلوب وطنيًا على صعيد الفعل المعارض فتح جميع مسارات الحوارات المعارضة، والابتعاد عن التمترس أمام مقولات وأوهام غير موجودة إلا في العقول، والسعي الاستعدادي إلى حوارات وأفعال ماراثونية تخدم العملية الوطنية المعارضة نحو انتقال سياسي قابل وقادر على الحياة، لكي يعيد لسوريا هويتها الوطنية والديمقراطية والإنسانية، نحو وجود فعلي لكل السوريين في مسارات الحل السياسي التفاوضي الدستوري الذي ينهي الديكتاتورية ويضع سوريا وشعبها على سكة الإنجاز الوطني الديمقراطي القابل للحياة. فهل يتعظ السوريون مما حدث مع غيرهم من القوى السياسية العربية الليبية واليمنية والعراقية في أسلوب وطريقة إنجاز حل سياسي ديمقراطي وطني يبعد البلاد عن مزيد من أنهار الدماء التي سالت على أرض تلك البلدان العربية، ويبعد سوريا عن جولات حروب دموية تعيد سوريا إلى المربع الأول في استرجاعها كبلد ودولة قابلة للحياة بدون تقسيم.