رأي | بقلم رامز باكير، محرر الموقع و عضو قيادة فرع المهجر في هيئة التنسيق الوطنية، وعضو عامل في الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي).
رأي
٢٧ أيار ٢٠٢٤
يعرف ماركس ”الدولة“ على انها اداة للقمع الطبقي وتزول أو تبدأ بالاضمحلال مع مركزيتها ما أن تبدأ التناقضات المجتمعية المبنية على اسس طبقية بالزوال، ليحل محلها نوع من التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي يحقق إدارة ذاتية للمجتمع بدون الحاجة إلى سلطة مركزية، وهو تعريف جاء كنقد لشكل الدولة القومية أو نمط التركيبة الدولاتية السائد منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، طبعاً خلافاً لتعريفات الدولة المختلفة كالتعريف الاسلامي، وتعريف هوبز و روسو و غيرهم.
يذكرني توافد الاعترافات "بالدولة" الفلسطينية مؤخراً وخاصةً بعد اعتراف كل من السويد و ايرلندا و اسبانيا- بموضوع عودة منظمة التحرير الى الداخل الفلسطيني بعد ان تقطعت بها السبل عربياً و اُفشل مشروعها التحرري، ليأتي اتفاق اوسلو ١٩٩٣ بتوقيع عرفات و رابين بمباركة أمريكية.
والسؤال : هل أخطأ ياسر عرفات بقبوله اتفاق أوسلو ، وهل كان من الممكن بعد تخلي معظم الدول العربية عن القضية الفلسطينية ودعمها، والارتماء في الحضن الصهيوأمريكي عبر اتفاقيات أوسلو ووادي عربة وغيرها من أن يكون له خيار آخر لعودة الفلسطينين إلى جزء من أرضهم كقاعدة انطلاق لمقاومة الاحتلال الصهيوني ؟ أم أن ياسر عرفات التف على ارادة الشعب الفلسطيني و انتفاضته الاولى ١٩٨٧، لينشئ عملياً اول تجليات "الدولة" أو الدويلة الفلسطينية، كسلطة امر واقع مفروضة من الخارج و التي تمتعت بحكم ذاتي في اجزاء من الضفة الغربية المستباحة وقطاع غزة ؟ وهل ذلك ساهم في أضعاف الوحدة الفلسطينية، و ادى فيما بعد الى تعميق الازمات والانقسام الفلسطيني-الفلسطيني؟ حيث بلغ هذا الانقسام ذروته بين حركة فتح، التي تسيطر على الضفة الغربية، وحركة حماس، التي سيطرت على قطاع غزة بعد انتخابات ٢٠٠٦ وفوز حماس بالأغلبية، لتتطور الى اشتباكات عنيفة في ٢٠٠٧، مما أدى إلى نشوء حكومتين فلسطينيتين متنافستين و تقزيم العمل المقاوم، ليتحول فيما بعد حكم عباس و زمرته و حماس الى سلطات امر واقع، واحدة في غرة، والاخرى معزولة تماماً في مدينة رام الله الأشبه بضيعة معزولة ومنفصلة تماماً عن الواقع الفلسطيني الذي يرزح تحت توحش الاحتلال.
وهل هذه الدويلة المسخ التي يريد المجتمع الدولي بقيادة الغرب الامبريالي الاعتراف بها، والتي اعترفت بها الأمم المتحدة أصلاً كدولة مراقب غير عضو في ٢٠١٢ ؟
من يروج لحل الدولتين:
قد تبدو فكرة حل الدولتين فكرة وجيهة و جديرة بالمعالجة ، لكن يجب أن يتم التنقيب وراءها ووراء الداعمين لها ، والمروجين لهذه الفكرة والبحث في امكانية تحقيقها.
تقليديًا، كانت الولايات المتحدة من الداعمين الرئيسيين لحل الدولتين، رغم أن موقفها قد شهد تقلبات تحت إدارات مختلفة، إلى أنها هي من هندسته، بحكم ارتباطها بالكيان الاسرائيلي بمصالح عسكرية و سياسية واقتصادية ، و تأثير اللوبي الصهيوني على السياسة الخارجية الأمريكية و صنع القرار، خاصة فيما يتعلق بالشؤون الخاصة بالشرق الأوسط ، هذا إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي التي تدعم هذا الحل وتسعى لتعزيز الجهود الدبلوماسية لتحقيقه لعلاقتها الخاصة أيضاً بدولة الكيان الصهيوني. وإقليمياً كانت من أبرز الداعمين لحل الدولتين وفي مقدمة الدول العربية المملكة العربية السعودية.
لاشك أن العالم لم يعد يرى المشهد الفلسطيني قبل زلزال اكتوبر و بعده بنفس المنظور، فالسردية الفلسطينية المقاومة والصمود الفلسطيني أصبح هو السائد بفضل جيل من الشباب الفلسطيني والعربي في الداخل العربي والخارج، وجيل الشباب في دول الغرب وحول العالم ، مما انعكس على متغيرات في عمق الشارع الغربي والأمريكي عبر المظاهرات والاعتصامات خاصة في الجامعات والأكاديميات التي ضربت السردية الإسرائيلية وهزت أركانها وفضحت التوحش الإسرائيلي الامبريالي في الشارع الغربي / الأمريكي.
و بحسب المتغيرات الأخيرة التي طرأت على المسألة الفلسطينية يمكن فرز الدول التي تدعم حل الدولتين إلى مجموعتين: قوى معنية و قوى غير معنية بشكل مباشر بالقضية الفلسطينية.
فلحفظ ماء الوجه وهروباً من ارتكاسات الواقع ، أدركت الطّغم الحاكمة في الكثير من الدول أن هذا التوحش الممعن بالإبادة الجماعية قد يؤدي إلى ازدياد التوترات الشعبية، ويعمق اتساع هوة الرفض الشعبي الكبير للدولة الصهيونية. هذا الكشف أوالانكشاف لزيف هذه الأنظمة الامبريالية بمثابة جرس إنذار قد يؤدي إلى حراكات أوسع وأشمل كتلك الحراكات التي فجرتها الثورة الجزائرية في فرنسا عام ١٩٦٨ و ثورة المستعمرات البرتغالية التي أدت إلى الثورة الوردية في البرتغال عام ١٩٧٤.
وعلى الجانب الآخر هناك القوة المعنية والفاعلة، سواء القوى الدولية التي تؤثر وتتأثر بالصراع بشكل مباشر أو التي تربطها بإسرائيل علاقات اقتصادية و عسكرية و سياسية، فإن البحث في تاريخ هذه الدول وتوجهاتها ، سنجد ان اكثر الدول المؤيدة و التي تنادي بحل الدولتين تختبيء وراء هذا الادعاء مع انها تعي تماماً عقمه و استحالته.
استحالة حل الدولتين:
مع أن الحل القائم على الدولتين يتصور وجود دولة عبرية ودولة عربية فلسطينية جنبًا إلى جنب فإن هذا التصور يكتنفه إشكاليات أساسية أهمها وجود عدة عوامل موضوعية تجعل هذا الحل مستحيلاً سواء بالمعنى المادي التاريخي لنشوء الدول أو بالمعنى السياسي وتجارب التشكيل السياسي للدول .
إن استمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية أدى إلى تفتيت الأراضي إلى درجة تجعل من دولة فلسطينية متماسكة وذات وحدة جغرافية قابلة للحياة أمرًا مستحيلًا واقعياً. فوفقًا لتقرير صادر عن منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية عام ٢٠٢٠، يوجد أكثر من ٦٠٠ ألف مستوطن إسرائيلي تم تسهيل وصولهم بشكل شبه منظم وبدعم من جيش الاحتلال إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية بهدف تمزيق المنطقة، ويعيشون في أكثر من ٢٠٠ مستوطنة وبؤرة استيطانية. هذه المستوطنات توسعها وامتدادها على الأرض الفلسطينية غير قانوني بموجب القانون الدولي، حيث يجري العمل بشكل مخطط وممنهج على التمهيد لترسيخ السيطرة الإسرائيلية المطلقة على الأراضي الموجودة ضمن حدود ١٩٦٧.
علاوة على ذلك، فإن الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، يزيد من تعقيد إمكانية وجود دولة فلسطينية موحدة. فحتى السلطة الفلسطينية نفسها، (وليدة اتفاقيات أوسلو) فاقدة الشرعية لسلطتها المحدودة من جهة ، ولعدم قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة من جهة أخرى ، وهي لا تعدو أكثر من حكومة صورية مقرها مدينة رام الله الأشبه بضيعة معزولة ، مهمتها الأساسية أن تحافظ على التنسيق الأمني مع إسرائيل بدلاً من تمثيل الإرادة الشعبية الفلسطينية. مع الإشارة إلى أنها لم تُجر انتخابات منذ أكثر من عقد.
الحل العادل:
لطالما كان النضال الوطني التحرري جزء من النضال الأممي ضد الامبريالية والاستعمار ، وإن الرصيد الذي راكمه النضال الطويل الفلسطيني وحركات التحرر العالمية - رغم تخاذل الأنظمة الرسمية للدول - لا يمكن ان يؤدي أخيراً إلّا الى كسر وتفكيك ليس فقط الهياكل الاحتلالية والفصل العنصري لدولة الكيان الصهيوني بل وإلى ضرب وانهيار قواعد الامبريالية العليا بقيادة الولايات المتحدة الامريكية .
وبدلاً من الاستمرار في دعم وهم حل الدولتين، يجب أن تكون مهمة أحرار العالم إجبار حكوماتها على إهمال الدعوة لحل الدولتين والاعتراف باستحالة تنفيذ هذا الحل والدعوة إلى نهج يستند إلى الحقوق و يركز على المساواة والعدالة للجميع، والضغط لعزل هذا الكيان ومعاقبته اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، جنباً إلى جنب مع الدعم الشعبي بجميع وسائل الدعم للدفاع عن أرضه ، والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في الوجود على أرضه، وإعلان أن الكيان الاسرائيلي كيان احتلال ومقاومته حق مشروع بكافة الوسائل المشروعة، وإن الحل العادل للقضية الفلسطينية لا يمكن أن يتحقق إلّا بإقامة دولة ديمقراطية واحدة تشمل كل فلسطين التاريخية، حيث يعيش اليهود والفلسطينيون وجميع سكان هذه البقعة كمواطنين متساوين، على أن تضمن هذه الدولة حقوق الإنسان ، وحقوق المواطنة المتساوية لجميع سكانها مع تأكيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين، كما هو منصوص عليه في قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤.
إنّ النضال من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية هو جزء من نضالنا كعرب بشكل خاص، ونضال اممي ضد التوحش الامبريالي و الاستعمار من أجل حقوق الإنسان والاضطهاد في كل مكان، حيث تتلاقى جميع النضالات. فهو نضال لكسر الأسس ذاتها لمجتمع عسكري، استيطاني، وعنصري دموي. وكما أُلغي نظام الفصل العنصري رسميًا في جنوب أفريقيا في عام ١٩٩٤ بعد عقود طويلة من النضال، وتمت عملية الانتقال نحو مجتمع ديمقراطي متعدد الأعراق و الاثنيات و الطوائف، لابد أن تؤدي هذه النضالات الى انتصار حتمي و سقوط حالة التجزءة الامبريالية في منطقتنا العربية المتمثل بدولة الكيان الصهيوني والانظمة الرجعية، ولابد ان ينال الشعب الفلسطيني و الشعوب العربية كافةً حريتها المنشودة.