يرحل الإنسان، وتبقى ذكراه اللطيفة الأنيسة التي تشع في عتمة دروب الحياة، كما تشع الماسة الأصلية النادرة وهذا ما حصل مع الطبيب الإنسان طارق رجاء الناصر، وهو يعالج في مدينة حلب الجرحى المسلحين والمدنيين، مما دفع أباه المعارض السياسي السوري رجاء الناصر إلى التمسك برباطة الجأش رغم فقدانه قطعة من فلذة كبده، لم يلتحق بقناعات والده ولم يتحول ذئباً مع الذئاب، وإنما دفعه نبله وقناعته الإنسانية لتكون حياته ثمنها في زمن الثورة السورية.
#بدنا المعتقلين
الاتحاد الاشتراكي
المحامي رجاء الناصر ابن مدينة حلب الشهباء سياسي بارز في صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي العربي منذ كان طالبا في المرحلة الثانوية معتنقا الناصرية منهجاً في النضال في ستينات القرن الفائت من أجل إعادة دولة الوحدة السورية المصرية، فقد شارك في النضال الوطني بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، في مرحلة إزالة آثار العدوان من خلال إقامة جبهة وطنية أعلنت شعار”كل شيء من أجل المعركة”، فشن النظام حملة اعتقالات لقيادات العمل الوطني في مايو من العام ١٩٦٨، ومنها اللجنة القيادية المصغرة لـ”حزب الاتحاد الاشتراكي العربي”. ومشاركته الفعالة كعضو في اللجنة المركزية في معارضة دخول “الجبهة الوطنية التقدمية” في آذار ١٩٧٢، أمام الأمين العام للحزب الدكتور جمال الأتاسي. وهو ما أسفر عن كفتي ميزان متعادلتين داخل الهيئة القيادية قبل أن يميل الوزن الشخصي للدكتور الأتاسي لصالح الدخول في تلك الجبهة مع حزب البعث الحاكم.
الانشقاق عن خط الأتاسي
إثر ذلك اتجه الناصر نحو تأسيس “التنظيم الشعبي الناصري” بين عامي ١٩٧٨ و ١٩٨٠ وكان في مقدمة قياداته. عندما لاحق النظام هذا التنظيم من خلال حملة اعتقالات كبيرة في صفوفه شملت معظم قياداته وكوادره الأساسية، مما دفع الناصر إلى التواري عن الأنظار مع بعض القيادات المتبقية داخل سوريا، والعمل على إعادة الحياة لهذا التنظيم عبر الفعل السياسي، مما لفت نظر أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي لنشاطه فيه، وتم ترشيحه لعضوية هذا التجمع إلا أن جمال الأتاسي الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، والأمين العام للتجمع في ذلك الوقت أبدى اعتراضه على وجود تنظيمين ناصريين في التجمع، ودعا إلى وحدة التنظيمين، وهو ما تم فعلاً، وعاد الناصر ومعظم أعضاء التنظيم إلى صفوف الحزب الأم للحركة الناصرية السورية، وعمل من داخل الحزب حتى تاريخ اعتقاله حيث أصبح عضواً في مكتبه السياسي وأمينا للجنة المركزية. وكتب الناصر العديد من القراءات النقدية والمواقف السياسية منها “إعلان دمشق، قراءة هادئة لمسيرة ومسار”، وأيضا” الحل الديمقراطي للقضية الكردية في سورية، عن الإصلاح والمصالحة في سورية، نحن وإيران والحلف الأمريكي-الصهيوني، عن مستقبل حقوق الإنسان في سورية”. بالإضافة إلى بعض المؤلفات منها “كتاب ثقافة المقاومة، ملفات القضاء، ودلالات الواقع العربي”. وساهم الناصر في تأسيس الجمعية الأهلية لمناهضة الصهيونية أثناء العدوان الصهيوني على غزة في نهاية العام ٢٠٠٨، وبداية العام ٢٠٠٩، وعمل رئيساً لمجلس إدارتها لمدة أربع سنوات ثم انتخب رئيساً لهيئة المؤسسيين فيها.
الخط الثالث وهيئة التنسيق
منذ خروج “حزب الاتحاد الاشتراكي” و”حزب العمل الشيوعي” من إعلان دمشق في جلسة ١ يناير نهاية العام ٢٠٠٧، بدأ إطار جديد يتشكل من خلال الحوارات التي كانت قائمة بين الناصريين في الاتحاد وحزب العمل الشيوعي، وحزب اليسار الكردي، وتجمع اليسار الماركسي “تيم”، عرف هذا الإطار بالـ”الخط الثالث” حيث شارك فيه رجاء بعمق حيث يصفه الكاتب محمد سيد رصاص بأنه شخصية “براغماتية، ذات قدرات تفاوضية، يجمع بين حدي التصلب والمرونة”. وشكل “الخط الثالث” النواة الأساسية التي انطلقت لتشكيل هيئة التنسيق بعد ثلاثة أشهر من بدء الثورة السورية، وظهرت أهمية هذا العمل ودور الناصر في مؤتمري حلبون والإنقاذ الوطني حيث أكدت الهيئة على الموقف من مسألة العنف، والتدخل العسكري الخارجي، والطائفية ودعت إلى أنه يجب على حركة التغيير الديمقراطي الاعتماد على قواها الذاتية من خلال توسيع إطار هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي لتشكل إطارا جديداً في مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي لعب الناصر فيه دوراً مركزياً. وكان لصبره وطول أناه في حوارات القاهرة التي استغرقت سبعة وثلاثين يوماً حتى توقيع اتفاق ٣٠ يناير في العام ٢٠١١، بين “الهيئة” و”المجلس الوطني” دوراً مميزاً حتى أنه دافع عن قيادي في المجلس الوطني اتهم الناصر بالتعامل مع المخابرات فقال “كلنا ضحايا والضحية أحيانا تتحدث بانفعالاتها لا بعقلها”.
شخصية عقلانية
إن شخصية الناصر العقلانية التي أهلته للحوارات الوسطية التي يحتاجها الشعب السوري بين أطراف المعارضة السورية بكافة تلاوينها السياسية بهدف الوصول إلى وفد مشترك لكافة أطراف المعارضة السورية، وعن موقفه من جماعة الإخوان المسلمين وعلاقتها بالجيش الحر قال: “إذا توقفنا عند موقف المسلحين من القوى السياسية وخصوصاً الإخوان، فالصورة أكثر تعقيداً حيث إن المسلحين ليسوا طرفاً واحد بل هم مئات الكتائب المنفصلة، وإن كانت تجمعها تيارات رئيسية ثلاثة:
التيار الأول: هم جماعة القاعدة داعش والنصرة وهؤلاء ضد الجميع لهم مشروع إقامة دولتهم على أي شبر يتم تحريره باعتباره أرض الإسلام ولا يعترفون أصلا بالدولة المدنية الوطنية، وهم ضد الإخوان كما هم ضد النظام، كما هم ضد القوى الوطنية الديمقراطية، وهم خارج العملية السياسية.
التيار الثاني: الكتائب الإسلامية ذات النزعة السلفية، ولكن عناصرها لا يخفون رغبتهم في إقامة الخلافة الإسلامية في سوريا، ويشكلون جزءاً أساسياً ولكن منفصلاً من الجيش الحر، وقد هدد هؤلاء بإقامة كيان عسكري وسياسي خاص بهم.
التيار الثالث: يتشكل من كتائب وجماعات علمانية ضابط وجنود منشقين، وجماعات محلية مناطقية، وإلى جانبها كتائب صغيرة قريبة ممولة من الإخوان المسلمين، وهي موزعة الولاء بين الدول الممولة “قطر، السعودية، الدول الغربية ، وتركيا”.
وعن الموقف من العمل العسكري أوضح الناصر أن: “ كل تفجير وكل عمل عسكري ما يستهدف المدنيين هو جريمة بكل معنى الكلمة، ولا يمكن تبريرها تحت أي غطاء سياسي، ويجب أن يكون هناك حرص حقيقي على الأرواح، والذي يريدون أن يقاتلوا، فليذهبوا لقتال من يقاتلهم، وهذا هو الحد الأدنى في شرعة حقوق الإنسان، فلا يجوز أن نتوجه نحو المدنيين لا بحجة محاربة النظام ولا بحجة الدفاع عن النفس، لذلك نطالب كل أبناء شعبنا أن يحاصروا كل دعاة العنف العبثي الذي يستهدف المدنيين، كما أن تدخل مسلحي حزب الله الذي أخلّ بفرصة عقد مؤتمر جنيف إبان احتلال القصير فرض واقعاً جديداً على الأرض ذا طابع عسكري”.
وأضاف الناصر أنه من الخطأ الكبير جداً أن يعتقد طرفا الصراع المسلح أن هناك إمكانية لحسم الصراع المسلح، فالصراع المسلح لن يحسم لمصلحة أي طرف، ولن تكون له نتائج سياسية والنتيجة الوحيدة التي ستكون هي مزيد من القتل والتدمير العبثيين، كلما قدم أنصار النظام دعماً له سيقدم أنصار المعارضة دعماً له بالمقابل والعكس صحيح، لذا نقول إن المراهنة على هكذا حرب هو أمر خاطئ ولا ندعمه، ومن هنا نرى أهمية جنيف ٢.
الحل السياسي
ينتمي رجاء الناصر إلى مدرسة سياسية وطنية في سوريا، اتخذت منذ اللحظة الأولى وحتى لحظة اعتقاله موقفاً صلباً مناهضاً للعسكرة والتسلح والتدخل الخارجي داعياً لـ”حل سياسي وطني” للمسالة السورية، ودفع أنصارها جراء ذلك، الكثير من سمعتهم ورصيدهم الكفاحي المديد والمرير، من دون أن يخضعوا لابتزاز أصحاب العقول الحامية، وكان رجاء الناصر ورفاقه دعاة الحلول السياسية، ويعد الناصر النموذج العراقي الصورة الأوضح للنموذج المصغر للشرق الأوسط الجديد، فقد تم تفتيت الدولة العراقية والمجتمع العراقي، وإلغاء هويته العربية والإسلامية الجامعة، وكرس هذا التفتيت بنظام قانوني جديد، يضمن محاصصة “كردية ، شيعية، سنية” مع الإبقاء الشكلي على الدولة المركزية بعد تنازلها عن كثير من صلاحياتها للتشكيلات الجديدة بهدف جعل هذه التشكيلات مرجعية فعلية لمصالح الفئات والأشخاص من جهة، وميدان تصارع واقتتال فيما بينها من جهة أخرى، مع الإبقاء على الدور الترجيحي وإدارة التناقضات للقوى الخارجية، وهي الولايات المتحدة الأميركية وحليفها الاستراتيجي إسرائيل.
المسألة الكردية
في مقاله عن الحل الديمقراطي للقضية الكردية في سوريا “يؤكد الناصر أن التوافقات الكردية/الكردية تتعارض مع مفهوم الدولة الوطنية القائمة على تساوي الأفراد بعيداً عن الجنس أو الدين أو العرق. لتصبح نموذجاً لدولة “تشاركية” لمجموعة من المكونات حيث لا يوجد ولاء مزدوج للدولة وللمكون تنظمه صيغ حقوقية ودستورية، تضمن فيها الأقلية المكون أو المجموعة من المكونات حق الاعتراض في جميع القضايا ولا يمكن إصدار أي قرار بشأنها دون التوافق، وهو هنا يشبه حق الفيتو على أي قرار لا تتوافق عليه أي أقلية، والمقصود هنا الكرد إذ أن الحديث هنا ينصب حولهم دون تحديد للشعوب الأخرى أي الأول والثالث ويوضح الناصر مفهوم التشاركية الذي يتأسس على حيز “إثني” الكرد الذين يجب أن يتمتعوا بحق إدارة أنفسهم وشؤونهم التشريعية والقضائية والإدارية أينما كانوا في سوريا، وعلى حيز “مكاني” يطرح تجميع ثلاث مناطق ذات كثافة سكانية هي “الجزيرة وعفرين وكوباني” أي معظم الشمال السوري علماً أن منطقة الجزيرة تضم نسبة كبيرة من السكان من أصول غير كردية.
رسائل الاعتقال
من جديد تؤكد المخابرات السورية باعتقال رجاء من حي البرامكة وسط العاصمة دمشق في أواخر العام ٢٠١٣ على أنه لا حصانة لأي مناضل مهما تكن سلميّته خصوصاً إذا كان يتمتع بعلاقات سياسية خارجية.
فاعتقال الناصر مع رفيقه عبد العزيز الخير مرّ دون أن يعترف النظام السوري بأي منهما حتى هذه اللحظة، رغم الضغوط التي مارستها الأطراف الدولية التي تتمتع بعلاقات طيبة مع النظام السوري.
والرسائل الأخرى أن المعارضة الداخلية التي ترفض التدخل الخارجي وضد العسكرة والطائفية وتدعو إلى إسقاط النظام السوري هي مستهدفة مثلها مثل كل القوى المعارضة السورية رغم أنها أول منتبنى الحل السياسي للمسألة السورية، وهو يؤشر على أن النظام مازال يعطي الأولوية للحل العسكري الأمني على غيره من الحلول المطروحة رغم مشاركته في مؤتمر جنيف الثاني.