لم تخلخل سنوات السجن الطويلة للطبيب السوري عبدالعزيز الخير قناعته وإيمانه العميق بالشعوب كافة، وخاصة شعوب المنطقة العربية، وعلى وجه الخصوص الشعب السوري، وخير دليل على هذا الإيمان العميق والقناعة الراسخة بهذا الشعب هو عودته إلى العمل السياسي السوري المعارض بعد خروجه من المعتقل بسجن صيدنايا العسكري الأول في نهاية العام ٢٠٠٥، فأول اجتماع حضره للمكتب السياسي لحزب العمل الشيوعي كان في نهاية الشهر الثاني من العام ٢٠٠٦، في مدينة حمص العدية، عاصمة الثورة وقلبها النابض.
#بدنا المعتقلين
إرادة الحياة
في ذلك الاجتماع أوضح الخيّر أنه مازال ماركسيا لأن الماركسية برأيه خير دليل فكري للعمل الثوري، وأن الرفاق الذين غادروا الماركسية نحو الليبرالية الجديدة لا يقيمون أهمية لهذا الفكر الإنساني الذي يؤمن بالدور العميق للشعوب في التغيير، وهو الذي كان يردد قول أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر.
إرادة الحياة لدى الخير هي سر الإنسان ومعجزته، الإنسان المتحرك المتوثب، الذي لا يهن ولا يضعف ولا يستسلم أبدا، بل كلما هاجمته الحياة وقست عليه أحداثها، وغلظت وطأتها، وخشنت مخالبها، انتفض ووثب للقتال، وتفجرت طاقاته، وتجلت مواهبه، وشمخت عزائمه.
الهرب من الصبّورة
هربنا من اجتماع “الصبورة” بعد أن داهمه الأمن السياسي خمسة رفاق هم (عباس إبراهيم عباس، حسن زهرة، توفيق عمران، أحمد النيحاوي، غسان حسن)، وقطعنا سيرا على الأقدام أكثر من ٥ كم في الشول الأرض القفرا النفرى حتى نصل إلى الطريق العام، حدثني في تلك الساعات عن أهمية الاستمرار في العمل الحزبي-السياسي مهما كانت الظروف، ولذلك لم يعد بعد اعتقال الرفاق إلى دمشق مباشرة، وإنما أكمل طريقه إلى مدينة دير الزور لعقد اجتماع آخر لـ ” تيم” تجمع اليسار الماركسي في سوريا. وتجلت الإرادة أيضاً في بداية الثورة السورية بإصدار أكثر من بيان مع زملائه في قيادة التجمع الوطني الديمقراطي في سوريا، وكذلك إعداد الوثيقة السياسية التي أقرها اجتماع تسع قوى قومية عربية ويسارية وماركسية، وأحد عشر حزباً كردياً وشخصيات من الاتجاه الإسلامي الديمقراطي بتاريخ ٢٥ حزيران ٢٠١١، وتم إعلانها في مؤتمر صحفي في دمشق في ٣٠ حزيران في نفس العام، بإطلاق هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي في سوريا.
الوجه الآخر لإرادة الحياة، الابتسامة التي تلازمه في كل الظروف وأصعبها، وفي حمص ذاتها عندما أخفقنا في استرجاع رفيق، أمضى الطريق إلى السلمية يبتسم قائلاً: ” شرف المحاولة” لا تفقد المقاصد غايتها، واليقظة الحية التي تشعل في القلوب شوقاً وأملاً وعملاً، هي الذخيرة الحية التي نتزود بها لمعارك الحياة.
السجن والمجتمع والإنسان
وفي أقسى المواقف الإنسانية حيث يواجه المناضل ذاته الإنسانية عاريا سوى من أفكاره ومبادئه التي قادته إلى السجون والمعتقلات في بلدن العالم الثالث ومنها سوريا نجد التفاؤل في أحلك الظروف وأقصاها، إذ رغم ظرف الخيّر القاسي يوضح لبرنامج صدى المواطنة أنه كان يفكر بأسر السجناء السياسيين حيث يقول: إن ” من أقسى القضايا والضغوط على روح السجين وبنيته العقلية والروحية ما تعانيه أسرته خارج السجن، فهي تعاني مادياً وسياسياً ونفسياً، وبكل أشكال المعاناة إنسانياً، ومعاناتها لا تقل معاناة عن السجناء السياسيين ذاتهم، فالأهالي عرفوا السجن لا لذنب اقترفوه، إنما لأنهم تضامنوا مع أبنائهم، ووقفنا عاجزين عن مساعدة هذه الأسر رغم الإحساس بالظلم الفادح للسجن من أجل القناعة والرأي السياسي الذي يؤمن به المعتقل السياسي".
يقول الخيّر إنه ” يعرف بعض الأسر سحقت سحقاً بمعنى الكلمة على كافة الجوانب الاجتماعية والإنسانية والقانونية، بالإضافة إلى المعاناة النفسية والوجدانية. ولعب كل ذلك دوراً كبيراً في تفكيك الترابط والتضامن الأسري”، وأحيانا في زيادة هذا الترابط والتضامن الأسري رغم عدم وجود احتضان اجتماعي.
ويذكر الجميع موقف عبدالعزيز الخيّر في القاهرة بتشرين الثاني نوفمبر ٢٠١١، بعد أن تم رشق وفد هيئة التنسيق بالبيض من قبل بعض الثائرين السوريين إذ كان يبتسم، وهو يصرح إلى وسائل الإعلام أن هذا الهجوم ضريبة الديمقراطية السورية، وأن بعض أطراف المعارضة المحسوبين على الثورة أو على بعض المعارضات الأخرى، التي تواجه هيئة التنسيق الوطنية في الضرب بالبيض والبندورة كوجه آخر لديمقراطية النظام في القتل والتدمير.
رغم ذلك أوضح الخيّر أنه لا بد من الحوار مع هذه القوى السياسية السورية للاتفاق على برنامج الحد الأدنى السياسي لمستقبل سوريا. وأتى اعتقاله من قبل النظام عند عودته من الصين الشعبية رسالة واضحة للمعارضة لمنع توحيد جهودها في إطار سياسي واحد.
التوازن السياسي
إذن في كل الأوقات لم يتخل عبدالعزيز الخيّر عن توازنه الإنساني والسياسي، ولم يدخل إلى بوابة العمل السياسي من خلال الأفكار السياسية السطحية، وإنما من بوابة الفعل الديمقراطي المؤمن بضرورة التغيير في بلد يواجه القناعة بالسجن، والمظاهرة بالرصاصة، والرصاص بالدبابات والمدافع والطيران. وهو الذي ولد في مدينة القرداحة في العام ١٩٥١، درس المرحلة الابتدائية والإعدادية في محافظة درعا، والثانوية في مدينة حمص، والطب في جامعة دمشق، وتخرج منها في العام ١٩٧٦، حضر المؤتمر الأول لحزب العمل الشيوعي في ١٦ آب ١٩٨١ في قرية تشحيم اللبنانية، وانتخب عضوا للجنة المركزية للحزب، وعضوا في مكتبه السياسي، تخفى عبدالعزيز الخيّر عن أعين الأمن السوري سنوات طوال بلغت ١١ عاما، واستخدم اسما حركيا ”أبو أحمد”، وتعد هذه الفترة من أطول فترات الملاحقة التي عرفها إي معارض في التاريخ. ولم يغادر دمشق سوى مرة واحدة لمدة لم تتجاوز عدة أيام، كان يتنقل، وهو ملاحق ليلا ونهارا بكل حرية، وكان حرا آنذاك أكثر من أي وقت مضى، فما من حرية بلا حدود يبلغها المناضل إلا من خلال حب الناس، “أبو المجد” عبدالعزيز الخير أحد المناضلين الذين يحسدون على حب الناس له، بل وإجماعهم على هذا الحب حتى في الأوساط غير المعروف فيها بذاته، فهو الطبيب الذي يخاطر بأمنه ليلا ونهارا ليعبر دمشق من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها كي يفحص سريرياً رفيقاً أو صديقاً مريضاً، وهو الصحفي المحترف المرهف الذي أشرف على عدة مطبوعات لحزب العمل الشيوعي منها رئاسة تحرير” النداء الشعبي”في ثمانينات القرن الفائت، وعضو تحرير الجريدة المركزية ” الراية الحمراء”، وعضو هيئة تحرير مجلة ” الشيوعي” النظرية التي صدر منها ١٢ عدداً، ولعب دوراً مركزياً في حزب العمل الشيوعي لأكثر من عشر سنوات من العام ١٩٨٢ حتى العام ١٩٩٢.
كتب مئات المقالات والتحقيقات والتقارير الصحفية والأبحاث الفكرية، وأعد كتاباً في أواسط الثمانينات بعنوان ” الكتاب الأسود” يعرض فيه لقضايا القمع والإرهاب التي مارسها النظام السوري ضد المعارضة، وأصبح هذا الكتاب مرجعاً سياسياً للعديد من المنظمات الحقوقية السورية والعربية والدولية، وساهم في إصدار بيان من حزب العمل الشيوعي في سوريا باسم “عرس الديكتاتورية” في العام ١٩٩١، وذلك قبل الاستفتاء على رئاسة حافظ الأسد، وخلال فترة تخفيه جرى الاعتداء على شقيقته الأستاذة الجامعية سلمي الخيّر بالضرب وسط الشارع العام في مدينة اللاذقية، واعتقل شقيقه الأستاذ النقابي هارون، وشقيقته ندى وابن عمه، وزوجته المدرسة منى صقر الأحمد، التي اعتقلت كرهينة أربع سنوات.
اعتقل الخيّر بتاريخ الأول من شباط العام ١٩٩٢، من قبل دورية عسكرية مسلحة تابعة لفرع فلسطين ٢٣٥ التابع لشعبة المخابرات العسكرية بقيادة المقدم عبدالكريم الديري في منطقة ” باب الجابية” في دمشق القديمة، وعندما وصلت الدورية إلى الفرع في منطقة الجمارك أطلق الرصاص ابتهاجاً واحتفالاً باعتقاله، بإشراف العماد علي دوبا رئيس الشعبة في ذلك الوقت والعميد مصطفى التاجر، والعقيد عبدالمحسن هلال رئيس قسم الأحزاب بالفرع في الزمن ذاته على التحقيق معه، وتعذيبه بشكل مباشر، من خلال بقائه مدة شهرين في زنزانة انفرادية. ونقل بعدها إلى سجن صيدنايا، وحوكم أمام محكمة أمن الدولة العليا، وحكم عليه جزار محكمة أمن الدولة القاضي فايز النوري بـ ٢٢ عاماً، بتهمة الانتماء إلى جمعية سرية محظورة، و” القيام بأنشطة مناهضة للنظام الاشتراكي للدولة”، و”نشر أخبار كاذبة من شأنها زعزعة ثقة الجماهير بالثورة والنظام الاشتراكي".
عاقبه نظام حافظ الأسد من خلال محكمة أمن الدولة حيث أصدر أعلى حكم عليه بين الشيوعيين إذ حكم عليه ٢٢ عاماً، وأصبحت عقوبته مضاعفة عندما خرج من السجن آخر ثمانية معتقلين من حزب العمل الشيوعي في تشرين الثاني نوفمبر من العام ٢٠٠١، حيث لم يبق معتقلا على ذمة الحزب سوى عبدالعزيز الخيّر، رغم المناشدات العديدة التي وجهتها منظمات دولية وإقليمية لإطلاق سراحه، إلا أن النظام السوري صم أذنيه عن سماعها، وضرب بها عرض الحائط.
ويعود هذا التغيب لعاملين أولهما أن الخيّر ينحدر من إحدى أكبر العوائل في الطائفة العلوية، ولها مكانتها على الصعيد الاجتماعي والديني، والثاني بيان ” عرس الديكتاتورية” الشهير الذي تخطى فيه حزب العمل كل الخطوط الحمراء التي وضعت حول شخصية الرئيس الراحل حافظ الأسد، وقدسية هذه الشخصية.
طبيب سجن صيدنايا
بسبب عدم وجود أطباء في السجون السياسية السورية إلا السجناء أنفسهم، عاين الدكتور عبدالعزيز الخيّر، وأشرف على ما يزيد عن مئة ألف حالة طبية من السجناء في معتقل صيدنايا، وأقنع إدارة السجن بتحويل أحد المهاجع إلى عيادة طبية “ميدانية”، بمساعدة رفيقه المهندس نزار مرادني، بما توفر من الأدوات الطبية التي استقدمها من عيادته الخاصة أثناء زيارات أهله، وبما وقع في اليد من الصناديق الخشبية المخصصة لتعبئة الخضار، وأطلق عليه السجناء في سجن صيدنايا “الحكيم".
عين الناقد السياسي
يمتاز الخيّر بعين سياسية نقدية عالية المستوى، هي صفة لا يعرفها إلا الدائرة السياسية الأولى التي عملت معه لسنوات طويلة، عبدالعزيز الخيّر المعتقل في سجون النظام السوري نتيجة خياراته السياسية في دعم ثورة الشعب السوري منذ بدايتها، وعمله الجليل في محاولة إيجاد صيغ العمل المشترك لكامل المعارضة السورية في الداخل والخارج، تشهد أروقة الحوار في القاهرة على ذلك، وعلاقاته السياسية مع العديد من الدول التي دعّمت الثورة، والتي كان لها موقف منها، فالإنسان السياسي عند الخيّر لا يحاور حلفاءه فقط، وإنما خصومه أيضاً.